فصل: باب في الجمع بين الأضعف والأقوى في عقد واحد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **


  باب في الجمع بين الأضعف والأقوى في عقد واحد

وذلك جائز عنهم وظاهر وجه الحكمة في لغتهم قال الفرزدق‏:‏ كلاهما حين جد الجرى بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابى فقوله‏:‏ كلاهما قد أقلعا ضعيف لأنه حمل على المعنى وقوله‏:‏ وكلا أنفيهما رابى قوى لأنه حمل على اللفظ‏.‏

وأنشد أبو عمرو الشيباني‏:‏ كلا جانبيه يعسلان كلاهما كما اهتز خوط النبعة المتتابع فإخباره بيعسلان عن كلا جانبيه ضعيف على ما ذكرنا‏.‏

وأما كلاهما فإن جعلته توكيدا لكلا ففيه ضعيف لأنه حمل على المعنى دون اللفظ‏.‏

ولو كان على اللفظ لوجب أن يقول‏:‏ كلا جانبيه يعسل كله أو قال‏:‏ يعسلان كله فحمل يعسلان على المعنى وكله على اللفظ وإن كان في هذا ضعف لمراجعة اللفظ بعد الحمل على المعنى‏.‏

وإن جعلت كلاهما توكيدا للضمير في يعسلان فإنه قوى لأنهما في اللفظ اثنان كما أنهما في المعنى كذلك‏.‏

وقال الله - سبحانه -‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ فحمل أول الكلام على اللفظ وآخره على المعنى والحمل على اللفظ أقوى‏.‏

وتقول‏:‏ أنتم كلكم بينكم درهم‏.‏

فظاهر هذا أن يكون كلكم توكيدا لأنتم والجملة بعده خبر عنه‏.‏

ويجوز أن يكون كلكم مبتدأ ثانيا والجملة بعده خبر عن كلكم‏.‏

وكان أجود من ذلك أن يقال‏:‏ بينه درهم لأنه لفظ كل مفرد ليكون كقولك أنتم غلامكم له مال‏.‏

ويجوز أيضا‏:‏ أنتم كلكم بينهم درهم فيكون عود الضمير بلفظ الغائب حملا على اللفظ وجمعه حملا على المعنى‏.‏

كل ذلك مساغ عندهم ومجاز بينهم‏.‏

وقال ابن قيس‏:‏ لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت سعيدا فأضحى قد قلى كل مسلم وفتن أقوى من أفتن حتى إن الأصمعي لما أنشد هذا البيت شاهدا لأفتن قال‏:‏ ذلك مخنث ولست آخذ بلغته‏.‏

وقد جاء به رؤبة إلا أنه لم يضممه إلى غيره قال‏:‏ يعرضن إعراضا لدين المفتن ولسنا ندفع أن في الكلام كثيرا من الضعف فاشيا وسمتا منه مسلوكا متطرقا‏.‏

وإنما غرضنا هنا أن نرى إجازة العرب جمعها بين قوى الكلام وضعيفه في عقد واحد وأن وأما قوله‏:‏ أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها فلغتان قويتان‏.‏

وقال‏:‏ لم تتلفع بفضل مئزرها دعدٌ ولم تسق دعد في العلب فصرف ولم يصرف‏.‏

وأجود اللغتين ترك الصرف‏.‏

وقال‏:‏ إني لأكنى بأجبال عن اجبلها وبآسم أودية عن اسم واديها وأجبال أقوى من أجبل وهما - كما ترى - في بيت واحد‏.‏

ومثله في المعنى لا في الصنعة قول الاخر‏:‏ أبكي إلى الشرق ما كانت منازلها مما يلي الغرب خوف القيل والقال وأذكر الخال في الخد اليمين لها خوف الوشاة وما في الخد من خال قال صاحب الكتاب‏:‏ أراد‏:‏ يا معاوية فرخمه على يا حارُ فصار يا معاوى ثم رخّمه ثانيا على قولك‏:‏ يا حارِ فصار‏:‏ يامعاوِ كما ترى‏.‏

أفلا تراه كيف جمع بين الترخيمين‏:‏ أحدهما على يا حارُ وهو الضعيف والآخر على يا حارِ وهو القوىّ ووجه الحكمة في الجمع بين اللغتين‏:‏ القويّة والضعيفة في كلام واحد هو‏:‏ أن يُروك أن جميع كلامهم - وإن تفاوت أحواله فيما ذكرنا وغيره - على ذكر منهم وثابت في نفوسهم‏.‏

نعم وليؤنِّسك بذاك حتى إنك إذا رأيتهم وقد جمعوا بين ما يقوى وما يضعف في عقد واحد ولم يتحاموه ولم يتجنبوه ولم يقدح أقواهما في أضعفهما كنت إذا أفردت الضعيف منهما بنفسه ولم تضممه إلى القوىّ فيتبين به ضعفه وتقصيره عنه آنس به وأقل احتشاما لاستعماله فقد عرفت ما جاء عنهم من نحو قولهم‏:‏ كل مجرٍ بالخلاء يسر‏.‏

وأنشد الأصمعي‏:‏ فلا تصلى بمطروق إذا ما سرى في القوم أصبح مستكينا إذا شرب المرضة قال‏:‏ أوكى على ما في سقائك قد روينا وغرضه في هذين البيتين أن يريك خفضة في حال دعته‏.‏

وقريب منه قول لبيد‏:‏ يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد أي‏:‏ هناك يُعرف قد الإنسان لا في في حال الخلوة والخفيضة‏.‏

وعليه قولها‏:‏ أي وقتى الإغارة والإضافة‏.‏

وقد كثر جدا‏.‏

وآخر ما جاء به شاعرنا قال‏:‏ وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا ونظير هذا الإنسان يكون له ابنان أو أكثر من ذلك فلا يمنعه نجابة النجيب منهما الاعتراف بأدونهما وجمعه بينهما في المقام الواحد إذا احتاج إلى ذلك‏.‏

وقد كنا قدمنا في هذا الكتاب حكاية أبي العباس مع عمارة وقد قرأ‏:‏ ولا الليل سابق النهار فقال له أبو العباس‏:‏ ما أردت فقال‏:‏ أردت‏:‏ سابق النهار‏.‏

فقال‏:‏ فهلا قلته‏!‏ فقال عمارة‏:‏ لو قلته لكان أوزن‏.‏

وهذا يدلك على أنهم قد يستعملون من الكلام ما غيره آثر في نفوسهم منه سعة في التفسح وإرخاء للتنفس وشحا على ما جشموه فتواضعوه أن يتكارهوه فيلغوه ويطرحوه‏.‏

فاعرف ذلك مذهبا لهم ولا تطعن عليهم متى ورد عنهم شيء منه‏.‏

  باب في جمع الأشباه من حيث يغمض الاشتباه

هذا غور من اللغة بطين يحتاج مجتابه إلى فقاهة في النفس ونصاعة من الفكر ومساءلة خاصية ليست بمبتذلة ولا ذات هجنة‏.‏

ألقيت يوما على بعض من كان يعتادني فقلت‏:‏ من أين تجمع بين قوله‏:‏ لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب وبين قولنا‏:‏ اختصم زيد وعمرو فأجبل ورجع مستفهما‏.‏

فقلت‏:‏ اجتماعهما من حيث وضع كل واحد منهما في غير الموضع الذي بدئ له‏.‏

وذلك أن الطريق خاص وضع موضع العام‏.‏

وذلك أن وضع هذا أن يقال‏:‏ كما عسل أمامه الثعلب وذلك الأمام قد كان يصلح لأشياء من الأماكن كثيرة‏:‏ من طريق وعسف وغيرهما‏.‏

فوضع الطريق - وهو بعض ما كان يصلح للأمام أن يقع عليه - موضع الأمام‏.‏

فنظير هذا أن واو العطف وضعها لغير الترتيب وأن تصلح للأوقات الثلاثة نحو جاء زيد وبكر‏.‏

فيصلح أن يكونا جاءا معا وأن يكون زيد قبل بكر وأن يكون بكر قبل زيد‏.‏

ثم إنك قد تنقلها من هذا العموم إلى الخصوص‏.‏

وذلك قولهم‏:‏ اختصم زيد وعمرو‏.‏

فهذا لا يجوز أن يكون الواو فيه إلا لوقوع الأمرين في وقت واحد‏.‏

ففى هذا أيضا إخراج الواو عن أول ما وضعت له في ألأصل‏:‏ من صلاحها للأزمنة الثلاثة والاقتصار بها على بعضها كما اقتصر على الطريق من بعض ما كان يصلح له الأمام‏.‏

ومن ذلك أن يقال لك‏:‏ من أين تجمع بين قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏}‏ من قول الشاعر‏:‏ زمان عليّ غراب غداف فطيره الدهر عنى فطارا فالجواب‏:‏ أن في كل واحد من الآية والبيت دليلا على قوة شبه الظرف بالفعل‏.‏

أما الآية فلأنه عطف الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ والعطف نظير التثنية وهو مؤذن بالتماثل والتشابه‏.‏

وأما البيت فلأنه عطف الفعل فيه على الظرف الذي هو قوله‏:‏ علي غراب غداف‏.‏

وهذا واضح‏.‏

وبهذا يقوى عندي قول مبرمان‏:‏ إن الفاء في نحو قولك‏:‏ خرجت فإذا زيد عاطفة وليست زائدة كما قال أبو عثمان ولا للجزاء كما قال الزيادي‏.‏

ومن ذلك أن يقال‏:‏ من أين تجمع قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ ولم يكن له ولى من الذل ‏}‏ مع قول امرىء القيس‏:‏ والجواب أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏ ولم يكن له ولى من الذل ‏}‏‏:‏ لم يذل فيحتاج إلى ولى من الذل كما أن هذا معناه‏:‏ لا منار به فيهتدى به‏.‏

ومثله قول الآخر‏:‏ لا تفزع الأرنب أهوالها ولا يرى الضب بها ينجحر وعليه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏ أى لا يشفعون لهم فينتفعوا بذلك‏.‏

يدل عليه قوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى‏}‏ وإذا كان كذلك فلا شفاعة إلا للمرتضى‏.‏

فعلمت بذلك أن لو شفع لهم لا ينتفعون بذلك‏.‏

ومنه قولهم‏:‏ هذا أمر لا ينادى وليده أى لا وليد فيه فينادى‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان لا منار به ولا وليد فيه ولا أرنب هناك فما وجه إضافة هذه الأشياء إلى ما لا ملابسة بينها وبينه قيل‏:‏ لا بل هناك ملابسة لأجلها ما صحت الإضافة‏.‏

وذلك أن العرف أن يكون في الأرض الواسعة منا يهتدى به وأرنب تحلها‏.‏

فإذا شاهد الإنسان هذا البساط من الأرض خاليا من المنار والأرنب ضرب بفكره إلى ما فقده منهما فصار ذلك القدر من الفكر وصلة بين الشيئين وجامعا لمعتاد الأمرين‏.‏

وكذلك إذا عظم الأمر واشتد الخطب على أنه لا يقوم له ولا يحضر فيه إلا الأجلاد وذوو البسالة دون الولدان وذوى الضراعة‏.‏

فصار العلم بفقد هذا ومن ذلك أن يقال‏:‏ من أين تجمع قول الأعشى‏:‏ ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا مع قول الآخر - فيما رويناه عن ابن الأعرابي -‏:‏ وطعنة مستبسل ثائر ترد الكتيبة نصف النهار ومع قول العجاج‏:‏ ولم يضع جاركم لحم الوضم ومع قوله أيضاً‏:‏ حتى إذا اصطفوا له جدارا والجواب‏:‏ أن التقاء هذه المواضع كلها هو في أن نصب في جميعها على المصدر ما ليس مصدرا‏.‏

وذلك أن قوله‏:‏ ليلة أرمدا انتصب ليلة منه على المصدر وتقديره‏:‏ ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمد فلما حذف المضاف الذي هو اغتماض أقام ليلة مقامه فنصبها على المصدر كما كان الاغتماض منصوبا عليه‏.‏

فالليلة إذاً ههنا منصوبة على المصدر لا على الظرف‏.‏

كذا قال أبو على لنا‏.‏

وهو كما ذكر لما ذكرنا‏.‏

فكذلك إذاً قوله‏:‏ إنما نصف النهار منصوب على المصدر لا على الظرف ألا ترى أن ابن الأعرابي قال في تفسيره‏:‏ إن معناه‏:‏ ترد الكتيبة مقدار نصف اليوم أى مقدار مسيرة نصف يوم‏.‏

فليس إذاً معناه‏:‏ تردها في وقت نصف النهار بل‏:‏ الرد الذي لو بدىء أول النهار لبلغ نصف يوم‏.‏

وكذلك قول العجاج‏:‏ ولم يضع جاركم لحم الوضم فلحم الوضم منصوب على المصدر أى ضياع لحم الوضم‏.‏

وكذلك قوله أيضاً‏:‏ حتى إذا اصطفوا له جدارا فجدارا الوضم منصوب على المصدر‏.‏

هذا هو الظاهر ألا ترى أن معناه‏:‏ حتى إذا اصطفوا له اصطفاف جدار ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه على ما مضى‏.‏

وقد يجوز أن يكون جدارا حالا أي مثل الجدار وأن يكون أيضاً منصوبا على فعل آخر أى صاروا جدارا أى مثل جدار فنصبه في هذا الموضع على أنه خبر صاروا‏.‏

والأول أظهر وأصنع‏.‏

ومن ذلك أن يقال‏:‏ من أين يجمع قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ‏}‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏‏.‏

والتقاؤهما أن أبا علي - رحمه الله - كان يقول‏:‏ إن عين استكانوا من الياء وكان يأخذه من لفظ الكين ومعناه وهو لحم باطن الفرج أى فما ذلوا وما خضعوا‏.‏

وذلك لذل هذا الموضع ومهانته‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏ إنما هو من لفظ الحياء ومعناه أى الفرج أى يطئوهن وهذا واضح‏.‏

ومن ذلك أن يقال‏:‏ من أين يجمع بين قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ‏}‏ و بين قوله‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏‏.‏

والتقاءهما من قبل أن الفاء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ‏}‏ إنما دخلت لما في الصفة التي هي قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ‏}‏ من معنى الشرط أى إن فررتم منه لاقاكم - فجعل - عز اسمه - هربهم منه سببا للقيه إياهم على وجه المبالغة حتى كأن هذا مسبب عن هذا كما قال زهير‏:‏ ومن هاب أسباب المنايا ينلنه فمعنى الشرط إذاً إنما هو مفاد من الصفة لا الموصوف‏.‏

وكذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ إنما استحقوا الويل لسهوهم عن الصلاة لا للصلاة نفسها والسهو مفاد من الصفة لا من الموصوف‏.‏

فقد ترى إلى اجتماع الصفتين في أن المستحق من المعنى إنما هو لما فيهما من الفعل الذي هو الفرار والسهو وليس من نفس الموصوفين اللذين هما الموت والمصلون‏.‏

وليس كذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِم‏}‏ من قبل أن معنى الفعل المشروط به هنا إنما هو مفاد من نفس الاسم الذي وقال لى أبو علي - رحمه الله -‏:‏ ‏{‏ إنى لم أودع كتابى ‏}‏ في الحجة شيئا من انتزاع أبي العباس غير هذا الموضع أعنى قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ‏}‏ مع قوله‏:‏ ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وكان - رحمه الله - يستحسن الجمع بينهما‏.‏

ومن ذلك أن يقال‏:‏ من أين يجمع قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً‏}‏ مع قول الأعشى‏:‏ حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر والتقاؤهما أن معناه‏:‏ فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة وكذلك قوله‏:‏ حتى يقول الناس أى حتى يقول كل واحد من الناس‏:‏ يا عجبا‏!‏ ألا ترى أنه لولا ذلك لقيل‏:‏ يا عجبنا‏.‏

ومثل ذلك ما حكاه أبز ويد من قولهم‏:‏ أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة وأعطانا كلنا مائة أى كسا كل واحد منا حلة وأعطاه مائة‏.‏

ومثل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ‏}‏ أى‏:‏ أو لم نعمر كل واحد منكم ما يتذكر فيه من تذكر‏.‏

ومن ذلك أن يقال‏:‏ من أين يجمع قول العجاج‏:‏ وكحل العينين بالعواور لما رأى أن لادعه ولا شبع مال إلى أرطاة حقف فالطجع واجتماعهما أنه صحح الواو في العواور لإرادة الياء في العواوير كما أنه أراد‏:‏ فاضطجع ثم أبدل من الضاد لا ما‏.‏

فكان قياسه إذ زالت الضاد وخلفتها اللام أن تظهر تاء افتعل فيقال‏:‏ التجع كما يقال‏:‏ التفت والتقم والتحف‏.‏

لكن أقرت الطاء بحالها ليكون اللفظ بها دليلا على إرادة الضاد التي هذه اللام بدل منها كما دلت صحة الواو في العواور على إرادة الياء في العواوير وكما دلت الهمزة في أوائيل - إذا مددت مضطرا - على زيادة الياء فيها وأن الغرض إنما هو أفاعل لا أفاعيل‏.‏

ونحو من الطجع في إقرار الطاء لإرادة الضاد ما حكى لنا أبو علي عن خلف من قولهم‏:‏ التقطت النوى واستقطته واضتقطته‏.‏

فصحة التاء مع الضاد في اضتقطته دليل على إرادة اللام في التقطته وإن هذه الضاد بدل من تلك اللام كما أن لام الطجع بدل من ضاد اضطجع‏:‏ هذا هنا كذلك ثمة‏.‏

ونحو من ذلك ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم‏:‏ لا أكلمك حيرى دهرٍ بإسكان الياء في الكلام وعن غير ضرورة من الشعر‏.‏

وذلك أنه أراد‏:‏ حيرى دهر - أى امتداد الدهر وهو من الحيرة لأنها مؤذنة بالوقوف والمطاولة - فحذف الياء الأخيرة وبقيت الياء الأولى على سكونها وجعل بقاؤها ساكنة على الحال التي كانت عليها قبل حذف الأخرى من بعدها دليلا على إرادة هذا المعنى فيها وأنها ليست مبنية على التخفيف في أول أمرها إذ لو كانت كذلك لوجب تحريكها بالفتح فيقال‏:‏ لا أكلمك حيرى دهر كقولك‏:‏ مدة الدهر وأبد الأبد ويد المسند و‏:‏ بقاء الوحى في الصم الصلاب ونحو ذلك‏.‏

وهذا يدل على أن المحذوف من الياءين في قوله‏:‏ بكى بعينك واكف القطر ابن الحوارى العالى الذكر إنما هو الياء الثانية في الحوارى كما أن المحذوف من حيرى دهر إنما هو الثانية في حيرى‏.‏

فاعرفه‏.‏

ومثله إنشاد أبي الحسن‏:‏ ارهن بنيك عنهم أرهن بنى يريد بنىّ فحذف الياء الثانية للقافية ولم يعد النون التي كان حذفها للإضافة فيقول‏:‏ بنين لأنه نوى الياء الثانية فجعل ذلك دليلا على إرادتها ونيته إياها‏.‏

فهذا شرح من خاصى السؤال لم تكد تجرى به عادة في الاستعمال‏.‏

وقد كان أبو علي رحمه الله - وإن لم يكن تطرقه - يعتاد من الإلقاء نحوا منه فيتلو الآية وينشد البيت ثم يقول‏:‏ ما في هذا مما يسأل عنه من غير أن يبرز نفس حال المسئول عنه ولا يسمح بذكره من جهته ويكله إلى استنباط المسئول عنه حتى إذا وقع له غرض أبي علي فيه أخذ في الجواب عليه‏.‏

  باب في المستحيل وصحة قياس الفروع على فساد الأصول

اعلم أن هذا الباب وإن ألانه عندك ظاهر ترجمته وغض منه في نفسك بذاذة سمته فإن فيه ومن ورائه تحصينا للمعاني وتحريرا للألفاظ وتشجيعا على مزاولة الأغراض‏.‏

والكلام فيه من موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ ذكر استقامة المعنى من استحالته والآخر‏:‏ الاستطالة على اللفظ بتحريفه والتعلب به ليكون ذلك مدرجة للفكر ومشجعة للنفس وارتياضا لما يرد من ذلك الطرز‏.‏

وليس لك أن تقول‏:‏ فما في الاشتغال بإنشاء فروع كاذبة عن أصول فاسدة‏!‏ وقد كان في التشاغل بالصحيح مغنٍ عن التكلف للسقيم‏.‏

هذا خطأ من القول من قبل أنه إذا أصلح الفكر وشحذ البصر وفتق النظر كان ذلك عونا لك وسيفا ماضيا في يدك ألا ترى إلى ما كان نحو هذا من الحساب وما فيه من التصرف والاعتمال‏.‏

وذلك قولك‏:‏ إذا فرضت أن سبعة في خمسة أربعون فكم يجب أن يكون على هذا ثمانية في ثلاثة فجوابه أن تقول‏:‏ سبعة وعشرون وثلاثة أسباع‏.‏

وبابه - على الاختصار - أن تزيد على الأربعة والعشرين سُبُعها وهو ثلاثة وثلاثة أسباع كما زدت على الخمسة والثلاثين سبعها - وهو خمسة - حتى صارت‏:‏ أربعين‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ لو كانت سبعة في خمسة ثلاثين كم كان يجب أن تكون ثمانية في ثلاثة لقلت‏:‏ عشرين وأربعة أسباع نقصت من الأربعة والعشرين سبعها كما نقصت من الخمسة والثلاثين سبعها‏.‏

وكذلك لو كان نصف المائة أربعين لكان نصف الثلاثين اثنى عشر‏.‏

وكذلك لو كان نصف المائة ستين لكان نصف الثلاثين ثمانية عشر‏.‏

ومن المحال أن يقول لك‏:‏ ما تقول في مال نصفه ثلثاه كم ينبغي أن يكون ثلثه فجوابه أن تقول‏:‏ أربعة أتساعه‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ ما تقول في مال ربعه وخمسه نصفه وعشره كم ينبغي أن يكون نصفه وثلثه فجوابه أن يكون‏:‏ جميعه وتسعه‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ ما تقول في مال نصفه ثلاثة أمثاله كم يجب أن تكون سبعة أمثاله فجوابه أن تقول‏:‏ اثنين وأربعين مثلا له‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ ما تقول في مال ضعفه ثلثه كم ينبغي أن يكون أربعة أخماسه وجوابه أن تقول‏:‏ عشره وثلث عشره‏.‏

وكذلك لو قال لك‏:‏ إذا كانت أربعة وخمسة ثلاثة عشر فكم يجب أن يكون تسعة وستة فجوابه أن تقول‏:‏ أحدا وعشرين وثلثين‏.‏

وكذلك طريق الفرائض أيضا ألا تراه لو قال‏:‏ مات رجل وخلف ابنا وثلاث عشرة بنتا فأصاب الواحدة ثلاثة أرباع ما خلفه المتوفى كم يجب أن يصيب الجماعة فالجواب أنه يصيب جميع الورثة مثل ما خلفه المتوفى إحدى عشرة مرة وربعا‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ امرأة ماتت وخلفت زوجا وأختين لأب وأم فأصاب كل واحدة منهما أربعة أتساع ما خلفته المتوفاة كم ينبغي أن يصيب جميع الورثة والجواب أنه يصيبهم ما خلفته المرأة وخمسة أتساعه‏.‏

فهذه كلها ونحوه من غير ما ذكرنا أجوبة صحيحة على أصول فاسدة‏.‏

ولو شئت أن تزيد وتغمض في السؤال لكان ذلك لك‏.‏

وإنما الغرض في هذا ونحوه التدرب به والارتياض بالصنعة فيه‏.‏

وستراه بإذن الله‏.‏

فمن المحال أن تنقض أول كلامك بآخره‏.‏

وذلك كقولك‏:‏ قمت غدا وسأقوم أمس ونحو هذا‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد تقول إن قمت غدا قمت معك وتقول‏:‏ لم أقم أمس وتقول‏:‏ أعزك الله وأطال بقاءك فتأتى بلفظ الماضي ومعناه الاستقبال وقال‏:‏ ولقد أمر على اللئيم يسبنى فمضيت ثمت قلت لا يعنيني أي‏:‏ ولقد مررت‏.‏

وقال‏:‏ وإنى لآتيكم تشكر ما مضى من الأمر واستيجاب ما كان في غد أوديت إن لم تحب حبو المعتنك أي أودى - وأمثاله كثيرة -‏.‏

قيل‏:‏ ما قدمناه على ما أردنا فيه‏.‏

فأما هذه المواضع المتجوزة وما كان نحوها فقد ذكرنا أكثرها فيما حكيناه عن أبي علي وقد سأل أبا بكر عنه في نحو هذا فقال أبو بكر كان حكم الأفعال أن تأتي كلها بلفظ واحد لأنها لمعنى واحد غير أنه لما كان الغرض في صناعتها أن تفيد أزمنتها خولف بين مُثُلها ليكون ذلك دليلا على المراد فيها‏.‏

قال‏:‏ فإن أمن اللبس فيها جاز أن يقع بعضها موقع بعض‏.‏

وذلك مع حرف الشرط نحو إن قمت جلست لأن الشرط معلوم أنه لا يصح إلا مع الاستقبال‏.‏

وكذلك لم يقم أمس وجب لدخول لم ما لولا هي لم يجز‏.‏

قال‏:‏ ولأن المضارع أسبق في الرتبة من الماضي فإذا نفى الأصل كان الفرع أشد انتفاء‏.‏

وكذلك أيضا حديث الشرط في نحو إن قمت قمت جئت فيه بلفظ الماضي الواجب تحقيقا للأمر وتثبيتا له أي إن هذا وعد موفى به لا محالة كما أن الماضي واجب ثابت لا محالة‏.‏

ونحو من ذلك لفظ الدعاء ومجيئة على صورة الماضي الواقع نحو أيدك الله وحرسك الله إنما كان ذلك تحقيقا له وتفؤلا بوقوعه أن هذا ثابت بإذن الله وواقع غير ذي شك‏.‏

وعلى ذلك يقول السامع للدعاء إذا كان مريدا لمعناه‏:‏ وقع إن شاء الله ووجب لا محالة أن يقع ويجب‏.‏

ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنما حكى فيه الحال الماضية والحال لفظها أبدا في بالمضارع نحو قولك‏:‏ زيد يتحدث ويقرأ أي هو في حال تحدث وقراءة‏.‏

وعلى نحو من حكاية الحال في نحو هذا قولك‏:‏ كان زيد سيقوم أمس أي كان متوقعا منه القيام فيما مضى‏.‏

وكذلك قول الطرماح‏:‏

واستيجاب ما كان في غد يكون عذره فيه‏:‏ أنه جاء بلفظ الواجب تحقيقا له وثقة بوقوعه أي إن الجميل منكم واقع متى أريد وواجب متى طلب‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ أوديت إن لم تحب حبو المعتنك جاء به بلفظ الواجب لمكان حرف الشرط الذي معه أي إن هذا كذا لا شك فيه فالله الله في أمرى يؤكد بذلك على حكم في قوله‏:‏ يا حكم الوارث عن عبد الملك أي إن لم تتداركني هلكت الساعة غير شك هكذا يريد‏.‏

فلأجله ما جاء بلفظ الواجب الواقع غير المرتاب به ولا المشكوك في وقوعه‏.‏

وقد نظر إلى هذا الموضع أبو العتاهية فاتبعه عتب الساعة الساعه أموت الساعة الساعه وهذا - على نذالة لفظه - وفق ما نحن على سمته‏.‏

وهذا هذا‏.‏

وليس كذلك قولك‏:‏ قمت غدا وسأقوم أمس لأنه عارٍ من جميع ما نحن فيه إلا أنه لو دل دليل من لفظ أو حال لجاز نحو هذا‏.‏

فأما على تعرية منه وخلوه مما شرطناه فيه فلا‏.‏

ومن المحال قولك‏:‏ زيد أفضل إخوته ونحو ذلك‏.‏

وذلك أن أفضل‏:‏ أفعل وأفعل هذه التي معناها المبالغة والمفاضلة متى أضيفت إلى شيء فهى بعضه كقولك‏:‏ زيد أفضل الناس فهذا جائز لأنه منهم والياقوت أنفس الأحجار لأنه بعضها‏.‏

ولا تقول‏:‏ زيد أفضل الحمير ولا الياقوت أنفس الطعام لأنهما ليسا منهما‏.‏

وهذا مفاد هذا‏.‏

فعلى ذلك لم يجيزوا‏:‏ زيد أفضل إخوته لأنه ليس واحد من إخوته وإنما هو واحد من بنى أبيه ألا ترى أنه لو كان له إخوة بالبصرة وهو ببغداد وكان بعضهم وهم بالبصرة لوجب من هذا أن يكون من ببغداد البتة في حال كونه بها مقيما بالبصرة البتة في تلك الحال‏.‏

وأيضا فإن الإخوة مضافون إلى ضمير زيد وهي الهاء في إخوته فلو كان واحدا منهم وهم مضافون إلى ضميره كما ترى لوجب أيضا أن يكون داخلا معهم في إضافته إلى ضميره وضمير الشيء هو الشيء البتة والشيء لا يضاف إلى نفسه‏.‏

وأما قول الله تعالى ‏{‏وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ‏}‏ فإن الحق هنا غير اليقين وإنما هو خالصه وواضحه فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل نحو هذا ثوب خز‏.‏

ونحوه قولهم‏:‏ الواحد بعض العشرة‏.‏

ولا يلزم من حيث كان الواحد بعض العشرة أن يكون بعض نفسه لأنه لم يضف إلى نفسه وإنما أضيف إلى جماعة نفسه بعضها وليس كذلك زيد أفضل إخوته لأن الإخوة مضافة إلى نفس زيد وهي الهاء التي هي ضميره‏.‏

ولو كان زيد بعضهم وهم مضافون إلى ضميره لكان هو أيضا مضافا إلى ضميره الذي هو نفسه وهذا محال‏.‏

فاعرف ذلك فرقا بين الموضعين فإنه واضح‏.‏

فأما قولنا‏:‏ أخذت كل المال وضربت كل القوم فليس الكل هو ما أضيف إليه‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ إنما الكل عبارة عن أجزاء الشيء وكما جاز أن يضاف أجزاء الجزء الواحد إلى الجملة جاز أيضا أن تضاف الأجزاء كلها إليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالأجزاء كلها هي الجملة فقد عاد الأمر إلى إضافة الشيء إلى نفسه‏.‏

قيل‏:‏ هذا فاسد وليس أجزاء الشيء هي الشيء وإن كان مركبا منها‏.‏

بل الكل في هذا جارٍ مجرى البعض في أنه ليس بالشيء نفسه كما أن البعض ليس به نفسه‏.‏

يدل على ذلك وأن حال البعض متصورة في الكل قولك‏:‏ كل القوم عاقل أي كل واحد منهم على انفراده عاقل‏.‏

هذا هو الظاهر وهو طريق الحمل على اللفظ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏ وقال تعالى‏:‏ كلا أبويكم كان فرع دعامة فلم يقل‏:‏ كانا وهو الباب‏.‏

ومثله قول الأعشى أيضا‏:‏ حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر أي حتى يقول كل واحد منهم‏:‏ يا عجبا‏.‏

وعليه قول الآخر‏:‏ تفوقت مال ابنى حجير وما هما بذى حطمة فانٍ ولا ضرع غمر أي‏:‏ وما كل واحد منهما كذلك‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ‏}‏ و ‏{‏كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏}‏ فمحمول على المعنى دون اللفظ‏.‏

وكأنه إنما حمل عليه هنا لأن كلا فيه غير مضافة فلما لم تضف إلى جماعة عوض من ذلك ذكر الجماعة في الخيبر‏.‏

ألا ترى أنه لو قال‏:‏ وكل له فانت لم يكن فيه لفظ الجمع البتة ولما قال‏:‏ ‏{‏وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏ فجاء بلفظ الجماعة مضافا إليها استغنى به عن ذكر الجماعة في الخبر‏.‏

وتقول - على اللفظ -‏:‏ كل نسائك قائم ويجوز‏:‏ قائمة إفرادا على اللفظ أيضا وقائمات على المعنى البتة قال الله - سبحانه -‏:‏ ‏{‏يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء‏}‏ ولم يقل‏:‏ كواحدة لأن الموضع موضع عموم فغلب فيه التذكير وإن كان معناه‏:‏ ليست كل واحدة منكن وصواب المسألة أن تقول‏:‏ زيد أفضل بني أبيه وأكرم نجل أبيه وعترة أبيه ونحو ذلك وأن تقول‏:‏ زيد أفضل من إخوته لأن بدخول مِن ارتفعت الإضافة فجازت المسألة‏.‏

ومن المحال قولك‏:‏ أحق الناس بمال أبيه ابنه‏.‏

وذلك أنك إذا ذكرت الأبوة فقد انطوت على البنوة فكأنك إذاً إنما قلت‏:‏ أحق الناس بمال أبيه أحق الناس بمال أبيه‏.‏

فجرى ذلك مجرى قولك‏:‏ زيد زيد والقائم القائم ونحو ذلك مما ليس في الجزء الثاني منه إلا ما في الجزء الأول البتة وليس على ذلك عقد الإخبار لأنه يجب أن يستفاد من الجزء الثاني ما ليس مستفادا من الجزء الأول‏.‏

ولذلك لم يجيزوا‏:‏ ناكح الجارية واطئها ولا رب الجارية مالكها لأن الجزء الأول مستوف لما انطوى عليه الثاني‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد قال أبو النجم‏:‏ أنا أبو النجم وشعرى شعرى وقال الآخر‏:‏ إذ الناس ناسٌ والبلاد بغرة وإذ أم عمار صديقٌ مساعف وقال آخر‏:‏ بلاد بها كنا وكنا نحلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد هذه رجائي وهذى مصر عامرةً وأنت أنت وقد ناديت من كثب وأنشد أبو زيد‏:‏ رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هُم هُم وأمثاله كثيرة‏.‏

قيل‏:‏ هذا كله وغيره مما هو جار مجراه محمول عندنا على معناه دون لفظه ألا ترى أن المعنى‏:‏ وشعرى متناهٍ في الجودة على ما تعرفه وكما بلغك وقوله‏:‏ إذ الناس ناس أي‏:‏ إذ الناس أحرار والبلاد أحرار وأنت أنت أي‏:‏ وأنت المعروف بالكرم وهم هم أي‏:‏ هم الذين أعرفهم بالشر والنكر لم يستحيلوا ولم يتغيروا‏.‏

فلولا هذه الأغراض وأنها مرادة معتزمة لم يجز شيء من ذلك لتعرى الجزء الآخر من زيادة الفائدة على الجزء الأول‏.‏

وكأنه إنما أعيد لفظ الأول لضرب من الإدلال والثقة بمحصول الحال‏.‏

أي أنا أبو النجم الذي يكتفى باسمه من صفته ونعته‏.‏

وكذلك بقية الباب كما قال‏:‏ أنا الحباب الذي يكفى سمى نسبي ونظر إليه شاعرنا وقلبه فقال‏:‏ ولكن صحة المسألة أن تقول‏:‏ أحق الناس بماله أبيه أبرهم به وأقومهم بحقوقه‏.‏

فتزيد في الثاني ما ليس موجودا في الأول‏.‏

فهذه طريقة استحالة المعنى‏.‏

وهو باب‏.‏

وأما صحة قياس الفروع على فساد الأصول فكأن يقول لك قائل‏:‏ لو كانت الناقة من لفظ القنو ما كان يكون مثالها من الفعل‏.‏

فجوابه أن تقول‏:‏ علفة‏.‏

وذلك أن النون عين والألف منقلبة عن واو والواو لام القنو والقاف فاؤه‏.‏

ولو كان القنو مشتقا من لفظ الناقة لكان مثاله لفع‏.‏

فهذان أصلان فاسدان والقياس عليهما آوٍ بالفرعين إليهما‏.‏

وكذلك لو كانت الأسكفة مشتقة من استكف الشيء - على ما قال وذهب إليه أحمد بن يحيى لكانت أسفعلة - ولو كان استكف مشتقا من الأسكفة لكان على اللفظ‏:‏ افتعل بتشديد اللام وعلى الأصل‏:‏ افتعلل لأن أصله على الحقيقة‏:‏ استكفف‏.‏

ومن ذلك أن لو كان ماهان عربيا فكان من لفظ هوم أو هيم لكان لعفان‏.‏

ولو كان من لفظ الوهم لكان لفعان‏.‏

ولو كان من لفظ همى لكان‏:‏ علفان‏.‏

ولو وجد في الكلام تركيب و م ه فكان ماهان من لفظه لكان مثاله‏:‏ عفلان‏.‏

ولو كان من لفظ النهم لكان‏:‏ لاعافا‏.‏

ولو كان من لفظ المهيمن لكان‏:‏ عافالا‏.‏

ولو كان في الكلام تركيب م ن ه فكان ماهان منه لكان‏:‏ فالاعا‏.‏

ولو كان فيه تركيب ن م ه فكان منه لكان‏:‏ عالافا‏.‏

وذهب أبو عبيدة في المندوحة إلى أنها من قولهم‏:‏ انداح بطنه إذا اتسع‏.‏

وذلك خطأ فاحش‏.‏

ولو كانت منه لكانت‏:‏ منفعلة‏.‏

وقد ذكرنا ذلك في باب سقطات العلماء‏.‏

نعم ولو كانت من لفظ الواحد لكانت‏:‏ منلفعة‏.‏

ولو كانت من لفظ حدوت لكانت‏:‏ منعلفة‏.‏

ولو كانت من دحوت لكانت‏:‏ منفلعة‏.‏

ولو كان في الكلام تركيب و د ح فكانت مندوحة منه لكانت‏:‏ منعفلة‏.‏

ولو كان قولهم‏:‏ انداح بطنه من لفظ مندوحة لكانت‏:‏ افعال بألف موصولة واللام مخففة‏.‏

وذهب بعض أشياخ اللغة في يستعور إلى أنه‏:‏ يفتعول وأخذه من سعر‏.‏

وهذا غلط‏.‏

ولو كان من قولهم‏:‏ عَّرس بالمكان لكان‏:‏ يلتفوعا‏.‏

ولو كان من سَرُع لكان‏:‏ يفتلوعا‏.‏

ولو كان من عسر لكان‏:‏ يعتفولا‏.‏

ولو كان من لفظ رسع لكان‏:‏ يعتلوفا‏.‏

ولو كان من لفظ رعس لكان‏:‏ يلتعوفا‏.‏

وأما تيهورة فلو كانت من تركيب ه ر ت لكانت‏:‏ ليفوعة‏.‏

ولو كانت من لفظ ت ر ه لكانت‏:‏ فيلوعة‏.‏

ولو كانت من لفظ ه ت ر لكانت‏:‏ عيفولة‏.‏

ولو كانت من لفظ ر ه ت لكانت‏:‏ ليعوفة‏.‏

ولو كانت من لفظ ر ت ه لكانت‏:‏ عيلوفة‏.‏

ومع هذا فليست من لفظ ت ه ر وإن كانت - في الظاهر وعلى البادى - منه بل هي عندنا من لفظ ه و ر‏.‏

وقد ذكر ذلك أبو على في تذكرته فغنينا عن إعادته‏.‏

وإنما غرضنا هنا مساق الفروع على فساد الأصول لما يعقب ذلك من قوة الصنعة وإرهاف الفكرة‏.‏

وأما مرمريس فلو كانت من لفظ س م ر لكانت‏:‏ علعليف‏.‏

ولو كانت من لفظ ر س م‏:‏ لكانت لفلفيع ولو كانت من لفظ ر م س لكانت‏:‏ عفعفيل‏.‏

ولو كانت من لفظ س ر م لكانت‏:‏ لعلعيف‏.‏

ولو كانت من لفظ م س ر لكانت‏:‏ فلفليع‏.‏

لكنها عندنا من لفظ م ر س وهي على الحقيقة فعفعيل منه‏.‏

وأما قرقرير لقرقرة الحمام فإنها فعلليل وهو رباعي وليست من هذا الطرز الذي مضى‏.‏

وأما قندأو فإنها فنعلو من لفظ ق د أ ولو كانت من لفظ ق د و لكانت‏:‏ فنعأل‏.‏

ولو كانت من لفظ د و ق لكانت‏:‏ لنفأع‏.‏

ولو كانت من لفظ ن ق د لكانت‏:‏ عفلأو‏.‏

ولو كانت من لفظ ن د ق لكانت‏:‏ لفعأو‏.‏

ولو كانت من لفظ الندأة لكانت قفلعو فحكمت بزيادة القاف وهذا أغرب مما قبله‏.‏

ولو كانت من لفظ النآدى لكانت‏:‏ قفلعو بزيادة القاف أيضا‏.‏

والمسائل من هذا النجر تمتد وتنقاد إلا أن هذا طريق صنعتها‏.‏

فاعرفه وقسه بإذن الله تعالى‏.‏